كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم.
وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا وقيل كانوا عشرة وقيل إنما كانوا نوحا وبنيه الثلاثة وكنائنته الأربع بامرأة يام الذي انخزل وانعزل وسلل عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية بل هي نص في أنه قد ركب معه غير أهله طائفة ممن آمن به كما قال: {ونجني ومن معي من المؤمنين} وقيل كانوا سبعة وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم وهم حام وسام ويافث ويام وتسميه أهل الكتاب كعنان وهو الذي قد غرق وعابر وقد ماتت قبل الطوفان قيل إنها غرقت مع من غرق وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك أو أنها أنظرت ليوم القيامة والظاهر الأول لقوله: {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} قال الله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين} أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه واقر عينه ممن خالفه وكذبه كما قال تعالى: {الذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور أن يكون على الخير والبركة وأن تكون عاقبتها محمودة كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم أي على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه {إن ربي لغفور رحيم} أي وذو عقاب اليم مع كونه غفروا رحيما لا يرد بأسه عن القوم المجرمين كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره قال الله تعالى: {وهي تجري بهم في موج كالجبال} وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الأرض قبله ولا تمطره بعده كان كأفواه القرب وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها كما قال تعالى: {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر} والدسر السائر {تجري بأعيننا} أي بحفظنا وكلاأتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها {جزاء لمن كان كفر}.
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن الطوفان كان في ثالث عشر شهر آب في حساب القبط وقال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} أي السفينة {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} قال جماعة من المفسرين ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعا وهو الذي عند أهل الكتاب وقيل ثمانين ذراعا وعم جميع الأرض طولها والعرض سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف ولا صغير ولا كبير قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم كان أهل ذلك الزمان قد ملأوا السهل والجبل وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لم تكن بقعة في الأرض الا ولها مالك وحائز رواهما ابن أبي حاتم {ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بنيهما الموج فكان من المغرقين} وهذا الابن هو يام أخو سام وحام ويافث وقيل اسمه كنعان وكان كافرا عمل عملا غير صالح فخالف أباه في دينه ومذهبه فهلك مع من هلك هذا وقد نجا مع أبيه الأجانب في النسب لما كانوا موافقين في الدين والمذهب {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين} أي لما فرغ من أهل الأرض ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عز وجل أمر الله الأرض أن تبلع ماءها وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر {وغيض الماء} أي نقص عما كان {وقضى الأمر} أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره من إحلاله بهم ما حل بهم وقيل بعدا للقوم الظالمين أي نودي عليهم بلسان القدرة بعدا لهم من الرحمة والمغفرة كما قال تعالى: {فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أنهم كانوا قوما عمين} وقال تعالى: {فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} وقال تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين} وقال تعالى: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} وقال تعالى: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} وقال تعالى: {ثم أغرقنا الآخرين} وقال: {ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وقال تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا انك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدو إلا فاجرا كفارا} وقد استجاب الله تعالى وله الحمد والمنة دعوته فلم يبق منهم عين تطرف.
وقد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن قائد مولى عبد الله بن أبي رافع أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم ام الصبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة يعني الا خمسين عاما وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر كيف تجري قال سوف تعلمون فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا خرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي وهذا حديث غريب وقد روى عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة وأحرى بهذا الحديث أن يكونا موقوفا متلقى عن مثل كعب الأحبار والله أعلم.
والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين ديارا فكيف يزعم بعض المفسرين ان عوج بن عنق ويقال ابن عناق كان موجودا من قبل نوح إلى زمان موسى ويقولون كان كافرا متمردا جبارا عنيدا ويقولون كان لغير رشدة بل ولدته أمه عنق بنت آدم من زنا وإنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه في عين الشمس وإنه كان يقول لنوح وهو في السفينة ما هذه القصيعة التي لك ويستهزئ به ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها وركاكتها ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.
أما المعقول فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره وأبوه نبي الأمة وزعيم أهل الإيمان ولا يهلك عوج بن عنق ويقال عناق وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا وكيف لا يرحم الله منهم أحدا ولا أم الصبي ولا الصبي ويترك هذا الدعى الجبار العنيد الفاجر الشديد الكافر الشيطان المريد على ما ذكروا.
وأما المنقول فقد قال الله تعالى: {ثم أغرقنا} الآخرين وقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم أخره بذلك وهلم جر إلى يوم القيامة.
وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه فكيف يترك هذا ياهل عنه ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق الا اختلافا من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء والله أعلم.
ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام والاستكشاف ووجه السؤال أنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق فأجيب بأنه {ليس من أهلك} أي الذين وعدت بنجاتهم أي أما قلنا لك {وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأن سيغرق بكفره ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان ثم قال تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودى وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور وقد قدمنا ذكره عند خلق الجبال {بسلام منا وبركات} أي اهبط سالما مباركا {عليك وعلى أمم ممن} سيولد بعد أي من أولادك فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ولا عقبا سوى نوح عليه السلام قال تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم سام وحام ويافث.
قال الإمام أحمد حدثنا عبدالوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعا نحوه وقال الشيخ أبو عمرو بن عبدالبر وقد روى عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال والمراد بالروم هنا الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام ثم روى من حديث اسمعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال ولد نوح ثلاثة سام ويافث وحام وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم وولد يافث الترك والسقالبة ويأجوج ومأجوج وولد حام القبط والسودان والبربر قلت وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا إبراهيم بن هانئ وأحمد بن حسين بن عباد أبو العباس قالا حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد لنوح سام وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والسقالبة ولا خير فيهم وولد لحام القبط والبربر والسودان ثم قال لا نعلم يروى مرفوعا الا من هذا الوجه تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلا ولم يسنده وإنما جعله من قول سعيد قلت وهذا الذي ذكره أبو عمرو هو المحفوظ عن سعيد قوله وهكذا روى عن وهب بن منبه مثله والله أعلم ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه وقد قيل إن نوحا عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد الا بعد الطوفان وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق وعابر مات قبل الطوفان والصحيح أن الأولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص التوراة وقد ذكر أن حاما واقع امرأته في السفينة فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته فولد له ولد أسود وهو كنعان بن حام جد السودان وقيل بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وأن يكون أولاده عبيدا لإخوته.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير من طريق علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال قال الحواريون لعيسى بن مريم لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها قال فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه قال أتدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا كعب حام بن نوح قال وضرب الكثيب بعصاه وقال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب فقال له عيسى عليه السلام هكذا هلكت قال لا ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت قال حدثنا عن سفينة نوح قال كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحش وطبقة فيها الإنس وطبقة فيها الطير فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فاقبلا على الروث ولما وقع الفار يخرز السفينة بقرضه أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اضرب بين عيني الأسد فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفار فقال له عيسى كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت قال بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت قال ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت قال فقالوا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا قال كيف يتبعكم من لا رزق له قال فقال له عد بإذن الله فعاد ترابا وهذا أثر غريب جدا وروى غلباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما وإن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما ثم وجهها إلى الجودى فاستقرت عليه فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين فعرف نوح أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودى فابتنى قرية وسماها ثمانين فأصحبوا ذات يوم وقد تبلبلت السنتهم على ثمانين لغة إحداها العربي وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنه.
وقال قتادة وغيره ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودى شهرا وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشرواء من المحرم وقد روى ابن جرير خبرا مرفوعا يوافق هذا وأنهم صاموا يومهم ذلك وقال الإمام أحمد حدثنا أبو جعفر حدثنا عبدالصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل عن أبي هريرة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال ما هذا الصوم فقالوا هذا اليوم الذي نجا الله موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودى فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم وقال لأصحابه من كان منكم أصبح صائما فليتم صومه ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله فليتم بقية يومه وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر والمستغرب ذكر نوح أيضا والله أعلم.
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها واطحنوا الحبوب يومئذ واكتحلوا بالاثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة فكل هذا لا يصح فيه شيء وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقندي بها والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن لماء وانسدت ينابيع الأرض فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر وكان استواء الفلك فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشر ليلة مضت منه وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رؤس الجبال فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ثم مضت سبعة ايام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه فعلم نوح أن الأرض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين برز وجه الأرض وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب قال ابن إسحاق وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وجميع الدواب التي معك ولينموا وليكبروا في الأرض فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عز وجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عز وجل وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الأرض وجعل تذكارا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام وهو قوس قزح الذي قدمنا عن ابن عباس أنه أمان من الغرق قال بعضهم فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر أي أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان واعترف به آخرون منهم وقالوا إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا قالوا ولم نزل نتوارث الملك كابرا عن كابر من لدن كيو مرث يعنون آدم إلى زماننا هذا وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان.
وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجعل بليغ ومكابرة للمحسوسات وتكذيب لرب الأرض والسموات وقد أجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان على وقوع الطوفان وأنه عم جميع البلاد ولم يبق الله احدا من كفرة العباد استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم وتنفيذ لما سبق في القدر المحتوم.